مقالات للكاتب

محمد شقير

الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

شارك المقال

لم نرَ إلّا جميلاً


إنها العقيدة التي تهب الإنسان قوّة لا ينتابها الضعف، وعزماً لا يلين، و مناعة أمام المحن، وصبراً في البلايا، وصلابة في الشدائد، وجميلاً من كل شيء.
وهو ما له فلسفته في بعدها النظري، وأيضاً تجلياته في بعدها الواقعي، في ما شهد به التاريخ، ونشهده في بيئة المقاومة وأهلها ومجاهديها وشهدائها وجرحاها.
أصل الحكاية قد كان في سنة 61 للهجرة، بعد شهادة الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه، عندما خاطب -وهو يبتغي إيلامها وكسر إرادتها- والي الكوفة يومها (عبيد الله بن زياد)، سيدة الصبر زينب بنت علي (ع)، بقولته المعروفة: كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتك؟ فكان جوابها: «ما رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّون إليه، و تختصمون عنده، فانظر لمن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة».
فما سر الجمال في عين زينب، وهي تنظر إلى مشهدية كربلاء، وما جرى في العاشر من محرم؟
في البعد الفلسفي-الديني؛ أي حدث يحصل معك، تتحدد نتائجه عليك تبعاً لنظرتك إليه، فهل هو بلاء من الله منحك إياه لتصنع إيمانك ويقينك، وتتخذ منه معراجاً للارتقاء إليه، وفرصة أنعم بها عليك، لتستنبت صبرك، ورضاك بقضائه، وتسليمك لأمره، والزلفى لديه… أم هو بنظرك شرٌّ لا ينطوي إلّا على القبح والمساوئ والأضرار؛ هل هو وجد وربح أم فقد وخسارة؛ هل سوف يوقد الإرادة أم يوهن الإرادة؛ هل سيهب النفس قوة وصلابة أم سيلقي في النفس الوهن واليأس؛ هل سوف يصبح المرء أشد ثباتاً ويقيناً أم سيكون أضعف في ثباته ويقينه؛ هل سوف يزداد قلبه إيماناً وتسليماً أم سوف يفقد إيمانه وثقته بالله وحسن ظنه به؟

هي فرصة لرفع مستوى الوعي واستقاء العبر من التجارب


إنّ طبيعة النظرة هذه - وما يترتب عليها من نتائج تتصل بالوعي والموقف وكثير من الآثار النفسية والتربوية وغيرها- مرهونة بشكل جوهري بالقلب وما حوى، فهل هو مسكون بالله ونور جماله، أم هو مسكون بالدنيا والتعلق بها، فإن كان مسكوناً بالله، فلن يرى الأمور إلّا بنور الله وعين جماله، ولذلك ترى المؤمن صابراً جميل الصبر، محتسباً عند الله ما أصابه، راضياً بقضائه، مطمئناً بقدره، واثقاً من نصره، ثابتاً على مواقفه، لا تهزه العواصف، ولا تزلزله القواصف، قوياً في الضراء، عصياً في البأساء، يرى الحوادث غير خارجة عن سلطان الله وحكمته، والأسباب ذليلة لقدرته وجميل صنعه، تجده مستبشراً في النوائب، منشرحاً في البلايا، يعد البلاء نعمة، والرخاء نقمة، والمحنة منحة، والحوادث سبيلاً إلى علو الدرجات، والرزايا سبباً إلى كثير التوفيق والبركات…
نعم، يبقى -حتى يصل إلى هذا المقام- أن يطهر قلبه من العلائق الدنيوية، وأن يخرج منه ما سوى الله، لأن القلب حرم الله، فلا يدخله إلّا خالقه، ولا يملك عرشه إلا مدبّره واللطيف به.
وهذا إن حصل، سوف يكون له الكثير من الآثار والنتائج، على المستوى النفسي، والقيمي، والتربوي، والثقافي، والسلوكي، بل والاجتماعي والسياسي… لأنه سيحيل الإنسان غير إنسان، في الحقيقة، والوعي، والقيم، والجوهر، والرؤية، والفعل، والسلوك، وعلى جميع المستويات.
هنا، سيكون المؤمن قادراً على الخروج من وطأة الحدث، وثقل آثاره، فينظر إلى أقصى التاريخ، ويتجاوز الراهن من الزمن، ويبصر أبعد من الدنيا، ويرى الوقائع كما هي، وينظر فيها بكل عقلانية، متجرداً من هواه، متعالياً على أناه، حصيناً أمام المؤثرات، لا تخدعه مكائد القوم، ولا تؤثر فيه أراجيفهم، مستبصراً مكرهم، مستعيناً بالله عليهم.
والأبعد من ذلك، لديه كل اليقين، وبالغ الإيمان، أنه إذ تولى الله، وأخلص له، وأعاره نفسه، وصدقه ما عاهد عليه؛ فإن الله تعالى سيتولاه بحكمته، ويدبر أمره بلطفه، ويدافع عنه بقوته، ويكبت عدوه بقهره، ويصدقه وعده، ويثبت أقدامه، وينزل عليه نصره، لأنه: «وما النصر إلا من عند الله»، و«يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم».
نعم، هذا منطق غيبي -وواقعي وعقلاني أيضاً- قد يتعالى على عقول البعض، وتصغر عنده أحلامهم، لكن هذه هي حقيقة الإيمان، التي لا تخرج الله من ساحة سلطانه، ولا تجعل حداً لقدرته، ولا تنزع منه لطيف تدبيره، أو تستقيله جميل عنايته. وهذا ما يناله المرء، شريطة أن نجعل الإيمان في وجدان قلوبنا، وأن نهب جمال الله ضمائر أنفسنا، عندها سنكون قادرين على تحويل أي تهديد إلى فرصة، بل إلى فرص كثيرة، لأن أي بلاء سنلقى، أو أي تحدٍّ نواجه، سوف يحيله إكسير الإيمان هذا واليقين، إلى سبب لمزيد من الإنجاز، وتحفيز التقدم، وصناعة القوة، وفعل الثبات، والاستمرار على النهج، وإكمال المسيرة.
أمّا في تجليات هذه الفلسفة أو الرؤية، في ما نعيشه اليوم من أحداث، فإن ما ينبغي قوله، هو إن في هذه التحديات أكثر من مسحة جمالية، تبدأ من إثبات الصدق، في ما عاهدنا الله عليه، من حماية وطننا، والدفاع عن سيادته، والذود عن حدوده، وتقديم الغالي والنفيس لحفظ عزته وكرامته؛ وهي فرصة لرفع مستوى الوعي، واستقاء العبر من التجارب، ولمعرفة من يعين العدو علينا في زمن الشدّة، ومن يشرك في دمنا في زمن المحنة، ومن الصادق في وطنيته وصداقته، أو الأمين في قربه وتحالفه… وليستبين أهل النفاق، وطينة القبح، وألسنة الإرجاف، وأبناء العمالة، وزمر الخيانة، والمنطوين في طائفيتهم، والغارقين في حقدهم، وعداوتهم. وهي فرصة لكشف حقيقة أهداف العدو، والمخبوء من أطماعه، والدفين من مخططاته، ولإظهار مدى وحشيته وإجرامه، وأنه كيان لا سبيل إلى التعايش مع وجوده، أو التطبيع معه، أو الغفلة عن شروره، أو الركون إلى أي أمن أو أمان في ظل جوره واستعلائه. وأن فيما يحصل أوضح دليل، في قبال من يدعو إلى تجريدنا من عوامل القوة لمواجهة عدوانه، وتعريتنا من قدرتنا على دفع وحشيته وإجرامه. وهي فرصة لإيلام العدو والنيل منه، وإنزال الكبت به. وهي فرصة لاكتشاف عوامل القوة والضعف، وجميع الثغرات الأمنية وغير الأمنية في مواجهة عدوانه الأمني والاستخباري المستديم على لبنان وجيشه وشعبه ومقاومته. وهي فرصة لمعرفة أين تسعى القوى الشريكة في العدوان إلى اختراق السيادة اللبنانية في الداخل اللبناني، ومساعيها إلى توظيف بعض الداخل، لإشعال الفتن الطائفية، وتهيئة مناخات الحرب الأهلية، خدمة للكيان الإسرائيلي ومصالحه، ولفضح النخب والجهات، التي تتعامل مع هذه القوى، لتحقيق مخططاتها وأهدافها.
وهي فرصة لتبين بأس المقاومة، وعزم رجالها، وأنها المؤتمنة والقادرة على صد العدوان ومواجهته. وهي فرصة لإعادة بناء جميع عوامل القوة لدى المقاومة، وبيئتها، ومؤسساتها، وجميع ما لديها. وهي فرصة لتقديم أرقى صور التضامن الاجتماعي، والتراحم المعنوي، والتكافل المادي، التي نشهدها في بيئة المقاومة، سواء أكانت عائلية، أم رحمية، أم قروية، أم اجتماعية، أم مؤسساتية ووطنية، وللتعاطف مع الناس وخدمتهم، والوقوف عند حاجاتهم، ومواساة من أصيب منهم. وهي فرصة لتمثل كل تلك المعاني الإيمانية والقيمية والأخلاقية لدى الأنبياء وصناعتها، ومواساة أهل بيت النبي بالعمل الصادق بها. وهي فرصة لفك التعلق بالمال والولد والدار والعقار، والبعد عن الترف والرفاهية، والعود إلى بساطة العيش والترابية. وهي فرصة للجوء إلى الله، والتضرع إليه، والقرب منه، والزلفى لديه. وهي فرصة لزيادة الإيمان، وتخصيب اليقين، وتخليق التواضع، وتحصيل الصبر، ونيل الثقة بالله، وحسن الظن به. وهي فرصة لصناعة البصيرة، والنظر بنور الله، والركون إلى لطيف صنعه، وجميل تدبيره. وهي فرصة لتألق الشهادة، وانتجاب الشهداء. الشهادة على صدق السبيل، وصواب النهج، واستقامة القافلة، وأن مسيرة سقيها من دماء الشهداء، وعطاء المضحين، وإخلاص العاملين، لن تموت، ولن توهن، ولن تستكين، ولن تتراجع، بل ستعود أقوى إرادة، وتكمل أشد عزيمة، وتمضي أجلى بصيرة.
أعود إلى فلسفة الجمال هذه، لأقول ما يلي: إن القضية ذات نِسب وجهات، فإذا نسبناها إلى الله تعالى، فلا يصدر من الجميل إلا الجميل، وإذا نسبناها إلى أنفسنا، فهي فرصة لنا لصناعة الجمال وتخصيبه، لكن إن نسبناها إلى عدونا، فهي ظلم وبغي وإجرام.
وما أودّ تأكيده، أن ما سطرناه، ليس من زخرف القول، أو ترف البيان، بل -وصدقاً أقول- إن ما لمسته شخصياً من كثير من المصابين في رحمهم وولدهم، أو المكلومين في أهل حزانتهم وأرزاقهم… من جميل الصبر، وعظيم الاحتساب، وبالغ الرضى، وخلاصة اليقين… ما يتصاغر اليراع عن وصفه، ويعجز البيان عن شرحه، وتصغر العقول عن دركه، هؤلاء الذين لم يذهب بعضهم إلى معاهد وجامعات، تحدثهم عن الجمال وفلسفته، ولم يصغوا إلى بعض ألسن النخب عن حب الوطن وقدس سيادته، لكنهم تعلموا في مدرسة الحسين، وذابت قلوبهم في معاني كربلاء، وأصغت نفوسهم إلى روح زينب، وأرضعتهم عاشوراء بأساً من سيرة العباس وشجاعة الأكبر، فأضحوا أجمل ما في الوطن، وأسمى ما في جماله، وأحلى صور بهائه وجلاله، عزة وكرامة، وتضحية وشهادة، وعطاء دم، وفعل مجد، وثمالة شرف، وإخلاص عمل، وقدس فداء. إن وطناً فيه هذا القدر من الجمال في شعبه، وجيشه، ومقاومته، لن يهزم، ولن تخدش كرامته، ولن تشرى سيادته.
وإن مقاومة لديها هذا القدر من الجمال في أهلها، وبيئتها، ووعيها، وقيمها، وثقافتها، ورؤيتها، لن توهن في عزمها، ولن تُكسر إرادتها، ولن ترتضي ذلها، ولن تخلع رداء عزتها، ولن تطوي كشحاً عن إبائها، ولن يستطيع المرجفون تشويه وعيها، ولن تقوى طينة القبح على مس جمالها، أو زرع اليأس في وجدانها، ولن تفلح فاغرة الهزيمة والنفاق، وعقد الدونية والاستلاب، في ثنيها عن الثبات على نهجها، وإكمال صادق مسيرتها.
بعقيدة الجمال هذه وإيمانه، سنشيّع شهداءنا، ونبني مدننا، ونعمر قرانا، وننهض من جديد بوطننا، وسيعود لبنان أجمل، ومقاومته أقوى، وسينتصر جمالنا… ونكمل الطريق.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي